بعدما كان المدرِّسُ النبراسَ وحاملَ
الرسالة السامية، وقُطب الرحى في منظومة الحياة المجتمعية برمَّتها، أضحى
في الآونة الأخيرة أيقونةً للتهكم والاستهزاءِ والسخرية، بل والتعنيف، سواء
كان ماديًّا أو رمزيًّا.
ورغم أن أحد المربِّين قد أشار إلى أهمية
المدرسة، ومن ضِمنها المدرِّس، إلى جانب المؤسسات الأخرى في البناء الحضاري
والتنموي بقوله: "هناك خمسُ مؤسسات رئيسة تتولى أمرَ الحضارة، وهي: البيت،
المدرسة، الدولة، مؤسسة الدين، مؤسسة العمل"[1]
- فإن أطرافًا متعددة ساهمت في محاولة تخريبها، من خلال آليَّات الهدم
المختلفة، بالرغم من محاولات البناء المتكررة، ورحم اللهُ الشاعر إذ يقول:
متى يبلغ البنيانُ يومًا تمامَه
إذا كنتَ تبنيه وغيرك يهدِمُ؟
|
العنف سلوك عدواني هدَّام للأخلاق
والقِيَم الفاضلة، تتضافر عواملُ متشابكة في إنتاجه، منها ما هو اقتصادي،
وسياسي، واجتماعي، وثقافي، وتعليمي، هذه العوامل التي تمثِّل سيفًا ذا
حدَّين: سلبًا أو إيجابًا.
وعلى سبيل المثال: إذا
كانت مادةُ التربية الإسلامية تربِّي في المتعلم القِيَمَ الفاضلة، إلا أن
هناك موادَّ دراسيةً أخرى تعمل على تشكيكِه في ثوابتِه العقائدية، بل
تشجِّعه على الانحلال الخُلقي، مما يجعل منه متعلمًا مزدوجَ الشخصية، بل
مضطربًا!
ولعل من أهمِّ هذه الأدوات التي تنخر جسدَ
المنظومة التعليمية، وتشجِّع على استفحال ظاهرةِ العنف المدرسي إن لم
يتمَّ توظيفُها واستغلالُها وتكوينها وتربيتها لخدمة أهداف الأمة المجتمعية
- ما يلي:
الإعلام:
وقد كان المفكِّر اليهودي محقًّا عندما
قال: "في عهد المركانتيلية من يملِك الذهبَ يملِك العالم، وحاليًّا من
يملِك الإعلام يملِك العالم"؛ إذ تعمل بعضُ المؤسسات الإعلامية على تشويه
صورةِ المدرِّس، من خلال عرض مسلسلات هزْلية، تستهدف كِيانَه وقيمتَه
الاجتماعية، فيصبح مادةً دسمةً للسُّخرية من قِبَل المتعلِّمين!
وكلنا يستحضر البرنامج التلفزيوني/ الوثائقي: "الوجه الآخر"
حول العنف المدرَسي: الذي قدمته القناة الثانية المغربية، التي تُظهر
المدرِّس في وضعية محرجة؛ إذ أظهرت أستاذ التربية الإسلامية في وضعية
مماثلة ومتساوية بل مهينة ومحتقَرة له مع تلميذته، بعد أن منح لها نقطةَ "صفر"
في المراقبة المستمرة، فاتهمتْه بالتحرُّش الجنسي، فتم عرضُه على اللجنة
التأديبية للتأكد من ذلك، وهذا يدفع تلميذاتٍ أخريات من هذا الصِّنف إلى
ارتكاب نفس الحماقة في حالةِ سُوءِ تفاهمِها مع المدرِّس، وهذا غَيض من
فَيض!
المواقع الإلكترونية:
بالرغم من الطَّفرة النوعية التي حققتها
الثورةُ التكنولوجية فإنَّ اتجاهاتِ المتعلِّمين أخذت مسارًا منحرفًا،
شوَّه مظهرَهم الخُلقي والخَلْقي؛ إذ باتوا يوظِّفون - مثلاً - المواقع
الاجتماعية - مثلاً الفايسبوك - في الاتِّفاق على طريقة الغش في
الامتحانات، بل هناك فيديوهات حول العنف المدرَسي على الشبكة العنكبوتية،
تُرشد المتعلِّمين - الذين يرتادونها بعيدًا عن واجباتهم المدرسية - إلى
تصيُّدِ ما يمكن أن يربكَ الصف المدرسي، فيرشد باقي المتعلمين إلى تنفيذ
العمليات البهلوانية.
الأسرة:
إذ تمثِّل الأسرة: "أول محيطٍ اجتماعي
يتعلَّم فيه الطفلُ الأنماطَ التي ستشكل السماتِ الأساسيةَ لشخصيَّته، ففيه
يكتسب بذورَ الحبِّ والكراهية والتعاون والتنافس والنزوع نحو التسلُّطِ
والخنوع، كما تتكوَّن النماذجُ الأولى لأهمِّ الاتجاهات التي تحدِّد شخصيته
مستقبلاً؛ أي: شخصيتَه وهو مراهق، ثم شخصيتَه وهو راشد"[2].
دون أن ننسى الدورَ الهدَّام للتفكُّكِ
الأُسري الذي يساهم في انحراف أفرادِها؛ إذ إن الحرمانَ العاطفي من أخطرِ
أساليب التنشئة الأسرية الخاطئة، ويرى بعضُ العلماء أن من أهمِّ أسباب
عصبية الأبناء وقلقِهم النفسي والشعور بالعداوة والعزلة - حرمانَهم من
الدِّفء العاطفي، وعدم إشباعهم لحاجات الحبِّ[3].
كما نجد فئةً من الآباء وأولياء الأمور،
يدفعون أبناءَهم إلى ارتكاب أشكال العنف؛ وهذا يذكِّرني بحالة فريدة من
نوعِها في تشجيع العنف: في أيام الامتحانات الوطنيةِ للبكالوريا في المغرب،
قدِم أبُ أحدِ التلاميذ يهدِّدُ الأستاذَ المراقب، بدعوى أنه لم يترك ابنه
ليغشَّ في الامتحان!
الشارع:
إن الشارعَ بطبيعته - وتبعًا لتصور المجتمع له - هو مكانٌ عمومي، ومن ثم فقد يكون أحيانًا مجلبةً لكل رذيلة[4]، في ظل التزايد المَهُول للأوكار والمقاهي التي تَأوي المنحرفين، دون ارتيادِ أماكنَ تساعدهم على تطوير ملَكاتهم المعرفية، (دور القرآن، معاهد...)،
ولعلَّ المثالَ الناجح في المغرب هذه السَّنة التلميذُ المغربي أنور عبدي،
الذي حصل على المعدَّل الأول على الصعيد الوطني؛ فهو يمثِّل النموذجَ في
الأخلاق التي تربَّى عليها في المسجد ودورِ القرآنِ التي تشجِّعه على طلب
العلم.
المدرِّس نفسه:
قد يساهم في دفع بعض المتعلِّمين إلى ارتكاب بعض الحماقات؛ نتيجةَ سوء تصرُّفِه وتعامله مع تلاميذه، وهذا ما أكَّده "ماسلو Maslow"، أن الإحباطَ الناشئ من التهديد واستخدامِ كلمات التحقير أمام زملاء الطفل والاستهزاء بقدراته، يؤثِّر تأثيرًا كبيرًا في سلوكِه[5].
المتعلم الفاشل:
نتيجةً لعجزه وتهاونه في مساره الدراسي،
يُضطَرُّ إلى التشويش على زملائه، بل قد يجرُّ معه فئةً أخرى من التلاميذ
إلى تكوين تحالُف تلاميذي يعكِّر صفوَ الدراسة.
الخريطة المدرسية:
وسعيًا من وزارة التربية والتعليم في
الحدِّ من تَكرار وانقطاع التلاميذ عن الدراسة - تقوم بالانتقاءِ
الميكانيكي للمتعلِّمين، رغم عدم حصولهم على المعدَّل الذي يمكِّنهم من
النجاح إلى المستوى الدراسي التالي، دون تمكُّنهم من الكفايات الأساسية.
أما الفئة الثانية فيتعلَّقُ الأمر
بالمطرودين، فيتمُّ إرجاعُهم عن طريق ما يسمى بطلب الاستعطاف، رغم أن
الغالبيةَ الساحقة منهم - الشاذُّ لا يقاس عليه - من المستبعدِ أنْ يسايرَ
أقرانَه في الدراسة، فيضطر إلى تعنيفِ زملائه وأساتذته؛ درءًا وتغطية للنقص
والضعف المدرسي الذي يعاني منه، دون أن تفكِّرَ الوزارةُ الوصيَّةُ في
تسجيلهم في مراكزِ التكوين والتأهيل الأخرى؛ إيمانًا بما يسمَّى بنظرية
الذكاءات المتعدِّدة، نعم كم من فاشل في الدراسة، لكنه برع في مجالات
مِهْنية أخرى!
غياب قانون رادع للتلاميذ:
إذ يتم في بعض الأحيان توقيفُ المتعلِّم
لمدة أسبوع نتيجة ارتكابه العنفَ تجاه المدرِّس أو المتعلِّم، وفي أقصى
الحالات يتمُّ نقلُه مِن مؤسسة تربوية إلى أخرى، دون أن يتمَّ اتخاذ قرارات
زجرية؛ ليكونَ عبرة لباقي المتعلمين في أفق الحدِّ من هذه الأزمة
القِيَمية التي باتت تنخر مؤسساتِنا التعليمية، كلنا - نحن المغاربةَ -
يتذكر حالة أستاذ الفلسفة في مدينة "وجدة"
في الجهة الشرقية للمغرب الذي تعرَّض للضرب من طرف المتعلِّم، لكن المحكمة
حكمت للمتعلِّم بالبراءة، فانهارت نفسيةُ الأستاذ، فاضطر إلى الاستقالة،
وهذا بلا شك سيشجِّع باقيَ المتعلمين على ارتكاب نفس الحماقة!
محيط المؤسسة التعليمية:
بدلاً من أن تنفتحَ المؤسسةُ التعليمية
على مراكزَ علمية وتربوية يستفيد منها المتعلم - نجد بالعكس مراكزَ
للانحراف، وانتشار المخدرات، والتدخين، والقمار، والملاهي الليلية.
وخلاصة القول:
يتفق
التربويون على أن المدرِّس هو أحدُ العوامل الرئيسة المؤثِّرة في سلوك
التلاميذ وشخصياتهم، إن لم يكن أهمَّها، وأنه جزء لا يتجزأ من البيئة
المدرسية، وبدونه لا يمكن تحقيقُ مواقف تعليمية جديدة، لكن لا يمكن تحقيقُ
ذلك ما لم تُعَدْ له كرامتُه التي سُلبت منه، من الأدوات والأجهزة
والمؤسسات السابقة، كما أنه لا يمكن أن تعودَ له قيمتُه الاجتماعية إلا
بتضافر الأستاذ والأُطر الإدارية، والتلاميذ، وأولياء الأمور، وباقي
المؤسسات الأخرى في تقويم السلوكيَّات السلبية التي تظهر على التلميذ؛
كالعنف، وذلك عن طريق رصد مسبباتها، والعملِ على الحدِّ منها أو التخفيف -
على الأقلِّ - من تأثيرها.
مولاي المصطفى البرجاوي
[1] نعيم حبيب جعيني، أنماط التنشئة الاجتماعية في المدرسة، مجلة دراسات العلوم التربوية، ع 1، مج 26، عمان، 1999م، ص 114.
[2] أحمد أوزي، ومحمد الدريج، المشكلات الأسرية والانفعالية للمراهق المغربي، مجلة التدريس، الرباط، عدد 6، سنة 1979، ص16.
[3] ملاك جرجس، مشاكل الصحة النفسية للأطفال، الدار العربية للكتاب، ليبيا، 1985، ص10.
[4] أحمد فريقي، الأبعاد السوسيلوجية والتربوية والقيمية للتنشئة الاجتماعية للفرد، مجلة عالم التربية، العدد21، السنة 2012، ص 198.
[5] الطراونة، إساءة معاملة الطفل الوالدية، أشكالُها ودرجة التعرُّض لها، ع2، مجلة دراسات، 2000، موقع شبكة العلوم النفسية:
http://www.arabpsynet.com
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Social/0/45200/#ixzz29ksZFb4L
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الرجاء عدم كتابة كلمات مزعجة